عانيت كثيرا... وصبرت على ما لا يحتمل، وما لا يطاق... قاسيت،تألمت وكسرت... أحسست قرب المنية ودنوها مني ما هو إلا بضع أيام بل بضع ساعات...
سئمت كل البشر، ولم أطق رؤية أحد إلا لمستلزمات الحياة وضرورياتها...
حسبني الناس جننت وفقدت لبّ عقلي وحكمته...
قتلتني الأيام ورمتني في حفرة الزمان... حفرة ظلماء، سوداء، باردة وبعيدة...
حاضري هدم مستقبلي ومسح ماضيّ... فأصبحت عالقا بالحاضر لا أذكر الماضي، ولا أفكر في المستقبل... نسيت من كنت! ولمن كنت! ولماذا كنت!... ولم أفكر من سأكون! ولمن سأكون! ولماذا سأكون!...
فوجئت أني عالق ها هنا حيثما أنا...
أذكر مرة أني أحببت البحر لأنه كان يتسع لجميع همومي، كان يسمعها فيغرقها هناك في أعماقه حيث لم أعد أراها، وكان يردّ لي تلك الهموم بنسائم عليلة وهواء طلق، وهدير يريح القلب وما فيه...
لكن الآن فقدت ذلك الشعور كما فقدت تذكار الماضي...
وأذكر أني كنت إنسانا... حتى عصفت بي الدنيا بتعقيداتها وتجاعيدها، فجعلتني بضع إنسان بل وأشلاء إنسان...
كظمت غيضي وعفوت عن الناس، لكن الناس أبوا إلا حرماني وقهري وكسري ومعاناتي...
سامحت جُلاّدي رغم أن سُمك جلدي تغير نتيجة سوطهم الذي ما زال صوته يئنّ في أذنيّ حزنا على ما قاسيت منهم... سامحتهم فظلموني، وعندما نويت ظلمهم سامحوني...
كسرتني الدنيا لكنها علّمتني...
دمّرتني الدنيا لكنها صقلتني...
عندما كنت طفلا حسبت الدنيا ومعيشتها أسهل أمر خلقه الله... إلا أنها تثبت لي يوما بعد يوم العكس من ذلك تماما... فما إن تصحو وتفيق أيها المرء من مصيبة إلا وقد دخلت بالمصيبة التي تليها ومن ثم التي بعدها وهكذا أصبحت سنة الكون... مسابح مصائب تحركها أنامل القدر الحبة تلو الأخرى وكلها من صنع وابتلاء الله... فالحمد لله...
علمتني الدنيا أن أسامح ظالمي... فبذلك أثبت له أني عزيز النفس قوي الإرادة لا أنكسر لأمر أوجده الإنسان إنما أخشى عذابا خلقه خالق ذلك الإنسان...
صعبة هي الحياة... فإما أن تستسلم لها وتنجرف مع تياراتها التي تؤدي بك إلى الهلاك منحنيا... وإما أن تبقى صامدا في وجه رياحها حتى تهلك من صعقة لها، صامدا شامخا عالي الهامة...
مريضة هي الأيام... أسقامها عديدة متنوعة وملونة... فإما أن تستنشق هواءها وتصاب بعلة لا تفارقك حتى تهلكك... وإما أن تجد في نفسك المضاد لكل تلك الأسقام... فتشفى أنت وتكون سبب شفاء العديد من الأناس حولك...
نسير وراء أقدارنا لا نمانع... وتسير هي وراء ابتلاءاتنا ولا ندافع... نُظلم ونُكسر فنسامح ونصافح... نُذبح وننزف ولا نزال نكافح... هكذا هي الأقدار عقيمة... تجعل الأفئدة مريضة وسقيمة...
عظيمة هي الاختيارات... فإما أن تكون أسدا شامخا قويا عزيز النفس... وإما أن تكون حرباء جاحظة العينين متلونة حسب أي أرض تدوسها، وبذلك تكتسب لون تلك الأرض... إما أن تكون ليثا سريع الانقضاض بيديك على فريستك وبقوة خيالية... وأما أن لا تكون حرباء شديدة البطء تلعق بلسانك فريستك... فشتان ما بين فرائس الأسود وفرائس الحرابي...
سريعة هي الأوقات... فإما أن تفوتك فتصبح أنت الماضي وهي الحاضر والمستقبل... وإما أن تفوتها أنت فتصبح هي الماضي وأنت الحاضر والمستقبل... فإما أن تتخطاك وإما أن تتخطاها دونما أن تذوق مرارتها ومرارة طعم جورها وظلمها تلك الأقوات...
فإن ذقت وبعدها أفقت... فذلك أعظم وقت... حتى ولو لدمائك أرقت... ولقلوب غيرك سرقت... وقضيت عديد حياتك بالمقت...
صعب أن تبحر ضد التيار... والأصعب أن يسحبك التيار معه في نهاية الأمر... والأصعب من كل ذلك هو الغرق الذي يتسبب لك به ذلك التيار، فتكون النهاية الهلاك... فإما أن تغرق مقاسيا مغاضبا عكس التيار وتضربك أمواجه العاتية حتى تهلكك مصرا عنيدا عزيز النفس... وأما أن تذهب مع التيار فيغرقك مستسلما ميتا كأن لم تكن...
فما هي النهاية يا ترى؟!... كلنا متعطشون لمعرفة النهاية... بينما هي تأبى وبأمر من الله أن تكشف لنا عن خفاياها وما تجهز لنا من أفعال... كلنا محبو استطلاع... نريد تسريع الأيام والزمان... ولكن الأمر ليس بتلك السهولة، فبغير الصبر وبغير الحلم لن نصل إليها، فإن وصلناها بغيرهما فتكون عادة نهاية تعيسة مهلكة... وإن وصلناها مع الصبر والحلم نعمنا بها نهاية سعيدة دائمة، راسمة على الدوام على وجوهنا أجمل ابتسامة خلقها الله...
وها أنا بعدما انتهيت بتّ عائدا من النهاية إلى اللانهاية... مليئة حياتنا بالبدايات والنهايات... فإما أن نبدأ ونتقن الانتهاء... وإما أن ننتهي لا نتقن الابتداء...
فالبداية يا سيدي يرعاك الله تحتاج الشجاعة والإرادة والإصرار... لكن النهاية تحتاج السماحة والعفو والإقرار...
تلك معان نفتقدها، لكن لو تعمقنا ببحار أنفسنا، لوجدنا أن ما يطفو على سطح الماء... ما هو إلا زينة مزيفة زهيدة الثمن... وما يكمن بأعماق أنفسنا هي درر باهظة الثمن تحتاج لسباح وغواص ماهر للوصول إليها واصطيادها وإظهارها للكون كله... جلية لا يخفى على البشر منها من شيء...
فعلى كل البشر... من غاب ومن حضر... من أنصفه ومن ظلمه القدر... من تسلق ومن مع الجبال انحدر... من تكبّر ومن انكسر... كل البشر كل البشر كل البشر!!!...
علينا أن ننظر إلى أعماق نفوسنا علّنا نجد تلك الأنوار التي تهدينا إلى النهايات السعيدة!!!...
الأربعاء سبتمبر 07, 2011 8:46 am